قال مالك بن دينار:
كان بالجهة التي أسكن بها في بغداد شاب من ذوي اليسار؛والجاه وكان من رجال الحكم وفي ذلك العهد.وكان بيته الذي ورثه عن والده مأوى للخلعاء والفساق من اخوانه و أصدقائه ومامن ليلة تمر الا وتسمع لهم فيها ضجيجا وصياحا.
وقد عرف اهل المدينة أن دار الشاب أصبحت مأوى لأهل الهوى واللهو من عشاق المغنيات والخمور وما اِلى ذلك مما يغضب الله ورسوله .
فشق ذلك على الجيران واِشتد عليهم فاحتالوا في تخفيف ذلك عنهم فلم يفلحوا لمكانة ذلك الشاب وجاهه ونفوذه حتى اِن بعضهم يئس من تلك الحال فباع داره واِنتقل اِلى جهة أخرى من المدينة .
قال مالك:
وذات ليلة جائتني فئة من الجيران فشكت اِلي هذا الشاب وشرحوا لي ما هم فيه من قلق وضجر وأنهم محرومون من قيام الليل وصلاة الفجر مع الجماعة لانهم محرومون من الراحة ليلا..واِن دام الأمر على تلك الحال فمضطرون اِلى ترك المكان..
وعندما سمعت شكاويهم صعب علي أمرهم و وعدتهم خيرا وانصرفوا.
قال مالك:
وقد رأيت بعد تفكير عميق أن أتحدث اِلى هذا الشاب بالتي هي أحسن لعل بذرة الخير تتحرك في نفسه وتتيقظ في أحنائه فيتوب اِلى رشده ويستغفر من ذنبه.
وذات يوم لقيت هذا الشاب في الطريق فأخبرته عن شكاية الجيران وتلطفت معه في الحديث محاولا أن أؤثر في نفسه..
فما كان منه اِلا أن قال:اِسمع أيها الشيخ اِن الدار داري و الاِخوان اِخواني ولا حق لجيراني في اللوم مادمت أفعل ذلك داخل بيتي فاِن لم يستطيعوا تحملي فباِمكانهم مغادرة المكان وليفعلوا ما أرادوا..
قال مالك: يا بني اِني أخشى أن يشكوك جيرانك لولي أمرك.
فقال الشاب:دعهم يفعلوا فولي أمري لا يحرم علي مايبيحه لنفسه.
قال مالك:اِني أخشى أن يشكوك لله ناصر الضعفاء والمظلومين.
قال الشاب:فليفعلوا فاِن الله عفو غفور رحيم خبير.
قال مالك:فأعياني أمره فتركته واِنصرفت وأنا مهموم.
وفي ليلتي رأيت رؤيا وسمعت كأن صوتا يحدثني وألقي في روعي أنه هو رب العزة يحدثني بلا كيفية ولا اِنحصار قائلا:
يا مالك دع عنك من عرف أن له ربا عفوا غفورا رحيما خبيرا.
واستيقظت من نومي مسبحا مستغفرا وكان الوقت قبيل الفجر وأنا في غاية التأثر من تلك الرؤيا .فقمت من فوري وخرجت متوجها الى بيت الشاب .قرعت بابه وناديته فخرج اِلي خادمه غاضبا يسألني عما أريده ولأي شيء جئت في مثل تلك الساعة وسيده نائم .
فقلت له:ياولدي اِني جئت في أمر ذي بال هو في أشد الحاجة اِليه .
قال الخادم:اِنه نائم ولا أستطيع اِزعاجه الآن.
قلت:لابد ان تخبره واِلا كنت مسؤولا عن أن تضيع عنه الخير والفائدة فتكون ملوما لديه ولدى ربك.
فلما سمع قولي ذلك دخل الدار ثم غاب برهة وعاد وهو يقول:
قد ايقظت سيدي فادخل على الرحب والسعة
قال مالك:دخلت عليه وسلمت فرد الكلام وهو كاره ثم قال ألك حاجة؟
قلت:نعم يا بني.
قال:وماهي.
قلت:جئت اِليك معتذرا.
قال:ومم تعتذر؟
قلت:لعلك تذكر أني تكلمت معك بشأن شكوى الجيران وتألمهم من ضجيجك مع أصحابك.
قال الشاب:نعم أنا لازلت ذاكرا حديثك وقد فكرت فيه طويلا..ومالذي جرى بعد هذا؟
قال مالك:فأخبرته برؤياي العجيبة تلك ولما علم أن الله تعالى قال لي:"دع عنك من عرف أن له ربا عفوا غفورا"دمعت عيناه وتغير لون وجهه وأطرق برأسه اِلى الأرض وسكت طويلا..
ثم قال:او قال ربي ذلك؟
قلت:نعم.
قال:أمدد يدك.
فمددتها فعاهد الله أمامي ألا يعصيه مادام فيه عقل وروح.
قال مالك:فرحت لذلك فطلبت منه أن يذهب معي اِلى المسجد لصلاة الفجر فأجاب.
وخرج معي فعلمته الطهارة والصلاة فصلى معنا صلاة الفجر ثم انصرف.
قال مالك:وفي اليوم الثاني لقيته في المسجد قبل صلاة الفجر يصلي صلاة ما أحسنهاوما أتمها وبعد صلاة الصبح لقيني فعرض علي أبياتا قالها وقد كان أديبا يحسن قول الشعر فقرأتها فاِذا منها:
يا واحدا قد جل عن تقديري اِني برئت اِليك من تدبيري
وبرئت من حولي اِليك وقوتي علما بأنك خالقي ونصيري
ربي اِليك تذللي وتخضعي والعز عندي ان تكون مجيري
أنت جليسي اذا عدمت مؤانسي ولذيذ ذكرك في الظلام سميري
ومنذ ذلك اليوم لم يرى الشاب اْلا مطيعا عابدا وقد اِبتعد عن أصدقاء السوء وندمان الرذيلة فحسنت أحواله واستقام أمره وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أخوتي الأعزاء:
هكذا ترون كيف كان للكلمة الطيبة والموعظة الحسنة أثر في توبة الشاب والعودة به اِلى الطريق المستقيم .
فالكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت في السماء تؤتي أكلها كل حين باِذن ربها.
فكونوا دعاة خير تعظون الناس بسلوككم الحسن وكلامكم الطيب ولكم في ذلك أجر عظيم اِن شاء الله.